{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)}
فإياكم أن تسوّل لكم أنفسكم أن تظلوا على عداوتكم لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنكم لن تنالوا منه شيئاً، وسيتم الله نوره، فلستم بدعاً عن سابق الخلق.
و{القرون}: جمع قرن، والقرن من المقارنة، وكل جماعة اقترنوا في شيء نسميهم (قرنا). وقد يكون القرن في الزمنية، ولذلك حسبوا القرن مائة سنة، والبشر الذين يجتمعون في مائة سنة يسمونهم قرناً.
أو القرن جماعة يقترنون في شيء يجمعهم، مهما طال بهم الأمد.
وقوله الحق: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} فهل لو أمهلهم الله- تعالى- كانوا سيؤمنون؟ لا، فلله علمٌ أزليٌّ، يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه اضطراراً أو اختياراً.
والمثل من حياتنا وأعرافنا- ولله المثل الأعلى- نجد الإنسان حين يريد بناء بيت، فالأمر يختلف حسب مقدرته؛ الفقير مثلاً يطلب بناء حجرتين؛ فيخطط رجل البناء لبناء حجرتين، وإذا كان الإنسان متوسط الحال؛ فهو يتجه إلى مهندس يصمِّم له بناء على قدر سعته، وإن كان الإنسان ثرياً؛ فهو يستدعي المهندس الذي يبني له بيتاً حسب إمكانات ورغبات هذا الثرى، ويصمم المهندس نموذجاً للبناء قبل أن يبدأ فيه، وتظهر فيه كل التفاصيل، حتى ألوان النوافذ والأبواب والحجرات.
والعالم قبل أن يخلقه الله سبحانه وتعالى كانت هيئته مقدرة أزلاً عنده سبحانه، وهذا هو مطلق القدرة من الحق تعالى، ويأتي واقع الكون على وفق ما قدره الخالق سبحانه أزلاً؛ حتى ولو كان هناك اختيار للمخلوق الكافر، فالله سبحانه يعلمه.
وقد صحَّ أن القلم جفَّ حتى في الأمور الاختيارية، وسبحانه يعلم ما تجري به الأمور القهرية وما يقضيه على خلقه بدون اختيار منهم، أما في الأمور الاختيارية فقد أعطى لخلقه الاختيار. وقد علم ما سوف يفعلونه غيباً؛ فصمم المسألة على وفق ما علم.
وإياك أن تظن أنه أراد بذلك أن يُلزمك، لا، فقد علم أنك ستختار. وهكذا علم الحق سبحانه من سيظلم نفسه- أزلاً- وسبق في علمه أن أهل القرون السابقة الذين أهلكهم لا يؤمنون.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} والظلم معناه نقل الحق من صاحبه إلى غيره، والحقوق الموهوبة من الخالق للبشر قد يظلمون فيها بعضهم البعض، لكن أعلى درجات الظلم حين يظلم أحدٌ حقَّ الإله الأعلى في أن يكون إلهاً واحداً، وأن ينقل ذلك لغيره. تلك هي قمة الظلم؛ لذلك قال سبحانه: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وهم قد ظلموا في قضية العقيدة الأولى، أو ظلموا في الحقوق بينهم وبين أنفسهم مصداقاً لقوله تعالى: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].
والواحد منهم ظالم ومظلوم في آن واحد؛ لأن الإنسان ملكاته متعددة، ومن هذه الملكات ملكة الإيمان الفطري، وملكة النفع العاجل الذاتي.
فإذا تغلبت ملكة النفع العاجل؛ تخرج النفس اللوَّامة؛ لتعيد الأمر إلى صوابه، أما إن كانت نفس تأمر بالسوء فهي تطلب تحقيق الشهوات فقط؛ لأنها نفس أمَّارة بالسوء. أما إن اطمأنت النفس إلى حكم الله تعالى ورضيت به ونفذت ما قاله الله سبحانه، فهي نفس مطمئنة. ومن يظلم نفسه فهو الذي يتبع شهوات نفسه، وهو قد أعطاها متعة عاجلة؛ ليستقبل بعد ذلك شقاءً آجلاً؛ فيكون قد ظلم نفسه.
والحق سبحانه لم يتركهم، بل أرسل الرسل مُؤيَّدين بالمعجزات؛ ليبصّروهم. لكن الله تعالى يعلم أنهم لا يؤمنون؛ لذلك قال: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: أنه سبحانه لو تركهم أحياء فلن يؤمنوا، فهو الذي خلقهم وقد علم أزلاً لن يختاروا الإيمان.
والحق سبحانه هو العالم الأعلى الذي يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه، لا على وفق ما يقهر خلقه عليه، فلو كان علمه سبحانه على وفق ما يَقْهر الخلق عليه لكانت المسألة منتهية.
والمثال- ولله المثل الأعلى- أنت في البيت وتريد أن تقوم وزوجتك برحلة، فإن كان الأولاد صغاراً؛ فأنت تغلق عليهم الباب بعد أن تقول لهم: إن طعامكم في الثلاجة؛ لحماً وسمكاً وجبناً وزيتوناً. وبعد أن تخرج أنت وزوجتك تقول لها: إن أبناءنا لن يأكلوا إلا جبناً وزيتوناً؛ لأنهم سوف يستسهلون هذا الطعام. ولو لم يكن في الثلاجة إلا الجبن، لما قلت ذلك؛ لأن هذا هو لون الطعام القهري.
لكن ما دام في الأمر اختيار؛ فأنت تستشف من سابق سلوك الأبناء. وعندما ترجع تجد أبناءك قد تصرفوا وفق ما حكمت به، رغم أنك تركت لهم الاختيار. ومثال هذا في القرآن قوله الحق: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1-3].
وفي هذا حكم من الله تعالى بان أبا لهب سيموت كافراً، وهذا حكم مُعْلَن ويُردَّد في الصلاة، ونحفظه، وأبو لهب هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كافراً مثل غيره من الكفار. وقد آمن من الكفار الكثير. ألم يسلم عمر؟ ألم يسلم عكرمة بن أبي جهل؟ ألم يسلم عمرو بن العاص؟ ألم يسلم خالد بن الوليد؟ فما المانع أن يسلم أبو لهب هو الآخر؟ لا، لم يسلم وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه أن ذلك لن يكون منه. وما كان من الممكن أن يمكر أبو لهب ويعلن إسلامه تكذيباً للقرآن؛ لأن الحق علم أزلاً سلوك أبي لهب.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كذلك نَجْزِي القوم المجرمين}.
وقوله: {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الذي كان للأمم السابقة التي أهلكت في القرون الماضية تجري ممن يحدِّد كل شيء؛ لأن القضايا في الكون واحدة. فالقضية الإيمانية موجودة من أول ما أرسلت الرسل إلى أن تنتهي الدنيا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ...}.
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
و{خَلاَئِفَ}: جمع خليفة، وهو من يَخْلُف غيره. والحق سبحانه وتعالى حينما وصف الإنسان أصدر أول بيان عن الإنسان قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً...} [البقرة: 30].
والله سبحانه وتعالى قادر، وسميع، وعليم، وله من كل صفات الكمال المطلق، وأنت قد تكون لك قدرة وقد تُعَدِّى أثر قدرتك إلى غيرك، ولكنك لن تستطيع أن تُعدِّي قدرتك إلى سواك، فإن كنت قوياً؛ فلن تستطيع أن تَهَبَ ضعيفاً قدراً على قوتك. بل كل الذي تستطيعه هو أن تهبه أثر قدرتك، فإن كان غير قادر على أن يحمل شيئاً؛ فأنت قد تحمله عنه، وإن كان غير قادر على المشي؛ فأنت تأخذ بيده، لكنك لا تستطيع أن تهبه جزءاً من قوتك الذاتية، فيظل هو عاجزاً، وتظل أنت قادراً- كما أنت.
هذا هو حال الخلق: تجد غنياً وآخر فقيراً، ويُعطي الغني للفقير من غناه، ويُعطي العالمُ للجاهل بعضَ العلم، لكنه لا يهبه مَلَكَة العلم؛ ليعلم.
أما الحق الأعلى سبحانه فهو وحده القادر على أن يهب من قدرته المطلقة للخلق قدرة موهوبة محدودة، وقد أعطاهم سبحانه أثر القدرة العالية في الأفلاك التي صنعها ولا دخل للإنسان فيها؛ من شمس، وقمر، ونجوم، ورياح، ومطر.
وأعطى الحق سبحانه للإنسان طاقة من قدرته في الأمور التي حوله؛ فأصبح قادراً على أن يفعل بعض الأفعال التي تتناسب مع هذه الطاقة الموهوبة. وبذلك عدَّي له الحق سبحانه من قدرته؛ ليقدر على الفعل، ومن غناه؛ ليعطي الفقير، ومن علمه؛ ليعطي الجاهل، ومن حلمه؛ ليحْلِم على الذي يؤذيه.
إذن: فالخلق لا يعدّون صفاتهم إلى غيرهم ولكنهم يعدون آثار صفاتهم إلى غيرهم، وتظل الصفة هنا قوة، والصفة هناك ضعفاً. أما الواحد الأحد فهو الذي يستطيع أن يهب من قدرته للعاجز قدرة؛ فيفعل. فهل كل الكون هكذا؟
إن الكون قسمان: قسم وهبة الله سبحانه وتعالى للإنسان بدون مجال له فيه. وقد أقامه الحق بقدرته، وهذا القسم من الكون مستقيم في أمره استقامة لا يتأتّى لها أي خَلَل، مثل: نظام الأفلاك والسماء ودوران الشمس والقمر والريح وغيرها، ولا تعاني من أي عطب أو خلل، ولا يتأتى لهذا القسم فساد إلا بتدخُّل الإنسان.
وقسم آخر في الكون تركه الحق سبحانه للإنسان؛ حتى يقيمه القوة الموهوبة له من الله.
وأنت لا تجد فساداً في كون الله تعالى إلا وجدت فيه للإنسان يداً، أما الأمور التي ليس للإنسان فيها يد فهي مستقيمة، ولذلك يقول الحق سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5].
والمراصد تحدِّد موقع الأرض بين الشمس والقمر، وموقع القمر بين الأرض والشمس بدقة تتناسب مع قوله الحق: {بِحُسْبَانٍ}؛ لأن الإنسان ليس له دخل في هذه الأمور.
وفيما لنا فيه اختيار علينا أن نتدخل بمنهج الله تعالى؛ لتستقيم حركتنا مثل استقامة الحركة في الأكوان العليا التي لا دخل لنا فيها.
إذن: فالذي يُفْسد الأكوان هو تدخُّل الإنسان- فيما يحيط به، وفيما ينفعل له وينفعل به- على غير منهج الله؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 1-5].
أي: هذه الأكوان مخلوقة بحساب، وتستطيعون أن تُقَدِّروا أوقاتكم وحساباتكم على أساسها. ويقول سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 5-9].
وحتى تستقيم لكم الأمور الدنيا في حركتكم في الكون- كما استقامت لكم الأمور العليا؛ وازنوا كل الأمور بالعدل؛ فلا يختل لكم ميزان؛ لأن الذي يُفسد الكون أنكم تتدخلون فيما أعطي لكم من مواهب الله قدرة وعلماً وحَركة على غير منهج الله. فادخلوا على أمور حياتكم بمنهج الله في (افعل) و(لا تفعل)؛ ليستقيم لكم الكون الأدنى كما استقام لكم الكون الأعلى.
وهنا يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} وقد خلف الإنسان الله تعالى في الأرض، في أنه- مثلاً- يحرث الأرض ويسقيها؛ فيخرج له الزرع، وحين يأخذ الإنسان أسباب الله فهو ينال نتيجة الأخذ بالأسباب. ولكن آفة الإنسان بغروره، حين تستجيب له الأشياء، فهو يظن أنه قادر بذاته، لا بأسباب الله.
والحق سبحانه وتعالى يُعطي بعطاء ربوبيته للمؤمن، وللكافر؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، لكنه جلّ وعلا ميَّز المؤمن، لا بعطاء الأسباب فقط، ولكن بالمنهج، والتكليف المتمثل في (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)، فإن أخذ العطاءين من الله يبقَ له حسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن أخذ العطاء الثاني في (افعل) و(لا تفعل)، فهو يأخذ الآخرة، أما دنياه فتظل متخلّفة.
ومن يُردْ أن يأخذ حُسْن الدنيا والآخرة، فليأخذ عطاء ربوبية الله تعالى بالأخذ بالأسباب، وعطاء الألوهية باتّباع المنهج.
إلا أن آفة الخليفة في الأرض أنه لا يرى بعض الأمور مستجيبة له؛ فيطغي، ويظن أنه أصيل في الكون، ونقول له: ما دمت تظن أنك أصيل في الكون فحافظ على روحك، وعلى قوتك، وعلى غناك، وأنت لن تستطيع ذلك. فأنت إنْ تمردت على أوامر الله بالكفر- مثلاً، فلماذا لا تتمرد على المرض أو الموت؟
إذن: أنت مقهور للأعلى غصباً عنك، ويجب أن تأخذ من الأمورالتي تنزل عليك بالأقدار؛ لتلجمك، وتقهرك، إلى أن تأخذ الأمور التي لك فيها اختيار بمنهج الله سبحانه.
ولو ظن الخليفة في الأرض أنه أًصيل في الكون، فعليه أن يتعلّم مما يراه في الكون، فأنت قد توكّل محامياً في العقود والتصرفات؛ فيتصرف في الأمور كلها دون الرجوع إليك ولا يعرض عليك بياناً بما فعل، فتقوم أنت بإلغاء التوكيل.
فيلتفت مثل هذا المحامي إلى أن كل تصرف له دون التوكيل قد صار غير مقبول. فماذا عن توكيل الله للإنسان بالخلافة؟ يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} فاذا كنتم قد خَلَفْتُم من هلكوا، فمن اللازم أن تأخذوا العظة والعبرة في أن الله تعالى غالب على أمره، ولا ترهقوا الرسل، بل تأخذوا المنهج، أو على الأقل، لا تعارضوهم إن لم تؤمنوا بالمنهج الذي جاءوا به من الله. واتركوهم يعلنون كلمة الله، وليعيدوا صياغة حركة المؤمنين برسالاتهم في هذا الكون على وفق ما يريده الله سبحانه، وأنتم أحرار في أن تؤمنوا أو لا تؤمنوا. {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ...} [الكهف: 29].
والدليل على ذلك أن الإسلام حينما فتح كثيراً من البلاد ترك لهم حرية اعتناق الإسلام أو البقاء على أديانهم، مع أنه قد دخل بلادهم بالدعوة أو الغلبة، ولكنه لم يقهر أحداً على الدين، وأخذ المسلمون منهم الجزية مقابل حماية المسلمين لهم.
ولو كان الإسلام قد انتشر بالسيف لما أبقي أحداً على دينه، ولكن الإسلام لم يُكْره أحداً، وحمى حرية الاختيار بالسيف. ولأن الذين لم يؤمنوا بالإسلام عاشوا في مجتمع تتكفّل الدولة الإسلامية فيه بكل متطلبات حياتهم، والمسلم يدفع زكاة لبيت المال، فعلى من لم يؤمن- وينتفع بالخدمات التي يقدمها المجتمع المسلم- أن يدفع الجزية مقابل تلك الخدمات.
وإذا اعتقد الإنسان أنه خليفة، وظل متذكراً لذلك، فهو يتذكر أن سطوة من استخلفه قادرة على أن تمنع عنه هذه الخلافة.
إذن: فخذوا الأمر بالتسليم، وساعدوا النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته، وآمنوا به أولاً، وإن لم يؤمنوا به فاتركوه؛ ليعلن دعوته، ولا تعاندوه، ولا تصرفوا الناس عنه؛ لأن الحق هو القائل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].
وساعة تأتي لأمر يعلله الله بكلمة {لِيَعْلَمَ...} [المائدة: 94].
أو {لِنَنظُرَ...} [يونس: 14].
فاعلم أن الله عالم وعليم، علم كل الأمور قبل أن توجد، وعلم الأشياء التي للناس فيها اختيار، وهو القائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب...} [الحديد: 25].
وقد علم الحق سبحانه أزلاً كل شيء، وإذا قال الله: {وَلِيَعْلَمَ} فليس معنى ذلك أن هناك علماً جديداً لم يكن يعلمه سوف ينشأ له، لكنه يعلم علم مشهد وإقرار منك؛ حتى لا يقول قائل: لماذا يحاسبنا الله على ما عَلمَ أزلاً؟ بل يأتي سبحانه بالاختيار الذي يحدِّد للعبد المعايير التي تتيح للمؤمن أن يدخل الجنة، وللعاصي أن يُحاسَب ويُجازَي.
وبذلك يعلم الإنسان أن الحق سبحانه شاء ذلك؛ ليعرف كل عبد عِلم الواقع، لا عِلْم الحصول.
إذن: فذكر كلمة {وَلِيَعْلَمَ} وكلمة {لِنَنظُرَ} في القرآن معناها علم واقع، وعلم مشهد، وعلم حُجّة على العبد؛ فلا يستطيع أن ينكر ما حدث، وقوله الحق: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} [الحديد: 25].
هذه الآية تبين لنا أدوات انتظام الحكم الإلهي: رسل جاءوا بالبرهان والبينة، وأنزل الحديد للقهر، قال الحق سبحانه: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25].
وقرن ذلك بالرسل، فقال: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ} والنصرة لا تكون إلا بقوة، والقوة تأتي بالحديد الذي يظل حديداً إلى أن تقوم الساعة، وهو المعدن ذو البأس، والذي لن يخترعوا ما هو أقوى منه، وعلْم الله سبحانه هنا عِلْم وقوع منكم، لا تستطيعون إنكاره؛ لأنه سبحانه لو أخبر خبراً دون واقع منكم؛ فقد تكذبون؛ لذلك قال سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} وفي هذا لون من الاحتياط الجميل.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ} كأن الله يطلب منكم أن تنصروه، لكن إياكم أن تفهموا المعنى أنه سبحانه ضعيف، معاذ الله، بل هو قوي وعزيز. فهو القائل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
بل يريد سبحانه أن يكون أعداء الإيمان أذلاء أمامكم؛ لأنه سبحانه يقدر عليهم.
إذن: فقول الحق سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ} إنما يعني: أن يكون علم الله بمن ينصر منهجه أمراً غيبيّاً؛ حتى لا يقول أحدٌ إن انتصار المنهج جاء صدفة، بل يريد الحق سبحانه أن يجعل نُصْرة منهجه بالمؤمنين، حتى ولو قَلَّت عدَّتُهم، وقلّ عددهم.
إذن: قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ} [يونس: 14].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق